من الثلج يأتي من النافذة،إلى "القمع يأتي من كل نافذة"

  من رواية "حنا مينة":الثلج يأتي من النافذة.

      إلى واقعنا :القمع يأتي من كل نافذة.

المناضل عندما يتحول إلى العيش  بين الأموات بعدما رفضه الأحياء

     تدور أحداث رواية "حنا مينة" "الثلج يأتي من النافذة" في بيروت(1969)، حيث تحاول أن تصور الوضع الذي يعيشه كل من اختار تجربة النضال من أجل تحقيق الحق للجميع، ورفض الاستغلال الممارس على الشغيلة وخاصة في المصانع؛ إلا أن تأثير النضال يكون قويا على المقربين من أفراد الأسرة التي ما فتئت تحذر مناضلنا من خطورة مواقفه وتبعات "سخونية الراس" والعمل السياسي، بدعوى أن الذي يضع يده في ماء ساخن يحرقها،  وأن السياسة لا تطعم خبزا.
 بأسلوب لا يخلو من فكاهة، حاول "حنا مينة" وصف الوضع الوجودي لمناضل  اختار الإستمرار في الدفاع عن قضيته دون استسلام، حتى ولو اضطر إلى مغادرة وطنه، وهو الأمر الذي حصل بالفعل مع "فياض" بطل الرواية، حيث حتمت عليه أوضاع بلده الأم "سوريا" التنقل سرا نحو "لبنان" من أجل خلاص ممكن، إلا أن الأوضاع في بيروت لم تكن على ما يرام؛ بل أشد وأخطر نظرا لكثرة التضييق على الحريات في العمل النقابي والسياسي؛ وهذا ما اكتشفه لحظة وصوله إلى وطن منفاه، فوجد صديقه "خليل" ابن عائلته يعاني بشكل يومي من الرقابة المفروضة على نقابته. فبالرغم من المشاكل الكثيرة التي يعاني منها العمال في المصانع، تستمر الحكومة في منع نضالاتهم واحتجاجاتهم، ولكن المناضل الحقيقي لا يعرف الاستسلام لأنه يعيش بالفعل من أجل قضية حقوقية وإنسانية. 

    بطل الرواية سيجد نفسه مسجونا داخل غرفة أحد أصدقائه، لأن الأوضاع لا تسمح له بالتنقل بين أحياء المدينة وشوارعها، إلا بسرية تامة. ورغم ذلك، فقناعاته الماركسية الثورية دفعته إلى المخاطرة والخروج من أجل الاشتغال والعمل من أجل جلب لقمة عيشه بعرق جبينه عوض أن يستمر عالة على أصدقائه الفقراء، والذين لم يمنعهم الفقرمن استضافة "فياض" وحمايته جسدا وروحا، عبر إطعامه وإمداده بالكتب والمقالات التي تناسب مستواه كأستاذ سابق. وكل ذلك من أجل عدم السماح لفياض بالخروج للعمل، لخطورة ظهوره أمام الشرطة التي تبحث في كل مكان عن أشخاص في مثل وضعه، ثم أن صديقيه "خليل" و"جوزيف" لم يسمحا بخروجه لتقديره واحترامه باعتباره صاحب علم ومعرفة وأستاذ سابق؛ والعمل في ورشة العمل لا يليق به، فلا يعقل أن يتحول من أستاذ إلى الإشتغال في البناء وحمل الآجور صاعدا إلى الطابق الثالث فالرابع ثم نزولا ببقايا "البيطون" إلى الخارج، بالإضافة إلى جر العربات بمعية المعذبون مثله إلا أنه مبتدئ بينما العمال الآخرون ألفوا العمل الشاق واعتادوه.

      نعم، لقد فعل ذلك كما يفعل الرجال وخرج للعمل الشاق في البناء، وحاول التكيف مع وضعه الجديد، وضع كله آلام ومعاناة مع التغيرات التي طرأت على جسمه:احمرار في كتفه من آثار حمل الآجور الحاد وجر العربات والأسلاك، وباطن كفي يديه منتفختين  وبها جروح وفقاقيع صغيرة ممتلئة بسائل أصفر ثم حمراء فضاربة في السواد ومتقيحة. كل ذلك وبطلنا مجبر على النوم خمس ليالي متتالية في الحديقة تحت قوانين الطبيعة، فضل اتخاذ الحديقة ملجأ ومسكنا لكي لا يحرج أصدقائه ، قبل أن يجد مأوى بمساعدة زميل له في ورشة العمل، غير أنه مسكن لا يليق بإنسان، لايليق بفياض أو سليمان أو ميشيل، إذ اضطر إلى تغيير اسمه أكثر من مرة لأن اسم فياض مطلوب من الشرطة.  اكترى بطل الرواية هذا البيت الذي يشبه كهف لا يصلح إلا للجرذان، ومع ذلك تقبل الوضع واختار الصبر الذي كان يوصيه به صديقه "خليل"، لأن بالصبر تحل المشاكل وتمر المحن، صبر من أجل القضية التي يتبناها، وليس الصبر الذي يتقبل صاحبه الإذلال المستمر من جيهات متعددة وخاصة السياسية منها.
    "إنما للصبر حدود"، هي المقولة التي أخرجت فياض إلى البحث عن العمل، فوجد نفسه تحت سقف تغيب فيه شروط الحياة الإنسانية والحيوانية معا، لكن عليه أن يقبل بمسكنه الجديد المناسب لأمثاله من الهاربين من الشرطة، زد على ذلك أن ما شجعه للصبر على البيت هو أن صاحبه "أبو روكز" اقترح علي فياض عملا على آلته العجيبة التي اخترعها في نفس المنزل الذي يقطنه، الأمر الذي يناسب فياض على الإختفاء والإختباء، أما العمل خارجا غير آمن لمناضل مزعج للسلطات والحكومات الفاسدة، وبالتالي، فاقتراح صاحب البيت جاء في محله وهذا ما كان يتمناه فياض لتجنب احتمال سجنه.
    فياض الذي أفنى حياته بين الكتب، قبل بعرض صاحب البيت "أبو روكز" المخترع الذي لم يتوقف عن تباهيه باختراعه لآلته، الآلة العجيبة لقطع المسامير، والتي أصبح فياض العامل الوحيد الذي يفهمها طبعا "مكره أخاك لا بطل"، فأصبح يعول على فياض للإرتقاء بالمعمل، بل وهو الوحيد الذي اعترف(مضطرا) لـ"أبي روكز"بنباهة وذكاء فائق وبأهمية وجمالية ما اخترعه، وهو الأمر الذي لم يتلقاه حتى من زوجته "مرين"التي لم تكترث لما صنعه، لذلك يقول فيها:" بقرة عندي الزوجة".

    فبطل الرواية إذن، تواجهه تحديات كبرى: من جهة القضية التي يؤمن بها ويناضل من أجلها، ومن جهة أخرى المعاناة التي يتكبدها جراء الإختباء المستمر من النظام الذي يحارب أشخاصا مثله وهم كثر. فكيف له بالنوم وهو مثقل بهذه الهموم؟ لم يتمكن من النوم بشكل جيد منذ وصوله إلى لبنان، سواء في بيت صديقه خليل أو ببيت "جوزيف وزوجته "هناء" (التي كان زوجها يصفها بالغبية، أكثر مما نتوقع، كما أن فياض لم يعترف لها بالذكاء بعدما سمعها وهي تسأل زوجها لما كان يقرأ رسالة فقالت: ممن هذه الرسالة يا جوزيف، فأجابها بأنها رسالة من بكين، ثم سألته من هي بكين، أجابها بكين هذه من الصين، ولغبائها تساءلت معتقدة أن بكين امرأة: ومتى تعرفت عليها ما شاء الله). ولم يستطع فياض النوم أيضا بشكل جيد في الحديقة أو في بيت "أبي روكز"، وهذا ما جعله يشبه النوم بالمرأة: "كلاهما تطلبه فينأى ، وتتركه فيقبل". 
    طبعا، هناك تفاصيل أخرى تضيف للرواية جمالية، وخاصة بعض الأحداث التي يجد فيها المناضل(مثال خليل) نفسه مضطرا للهو والغناء والترويح عن النفس، فهذه "أم بشير" الخطَّابة التي تزوج النساء، كانت تجلب لهم عروضا لإحياء بعض الأعراس بالغناء والضرب على بعض الآت الموسيقية، وغالبا كانت تأتي هذه الأعراس في محلها كمصدر لإعالة عائلة خليل، خاصة بعدما طرد هذا الأخير من العمل كمكافأة على نضالاته. و"أم بشير" هذه كانت في بعض فترات اختفاء فياض، جسر وصل بينه وبين عائلة خليل أو جوزيف، وفي بعض الأحيان كانت تجد فياض صدفة وبطريقة تجعله يتساءل -مستغربا- في نفسه عن الكيفية التي وصلت إليه، ثم يذهب العجب عندما يتذكر أنها تزوج النساء وتستطيع أن تفعل ما يعجز عنه الرجال: ألم تصف نفسها قائلة "امرأة أنا ورجل". ولا ينبغي أن نتجاهل الحب الخفي الذي حصل بين فياض ودينيز الجميلة، فتاة النافذة المقابلة لغرفة فياض في بيت "خليل" ، وهي علاقة صامتة(ونارها محرقة داخليا)، لم يتم التعبيرعنها والبوح بها من الطرفين بالرغم من أن الفتاة كانت مستعدة لتمنحه جسدها وروحها، وبعد مغادرته لبيت خليل استسلمت لرغبتها وحاولت الوصول إليه عبر "أم بشير" إلا أنه رفض العرض، الأمر الذي خلف في نفسها استياءا لا يوصف.

   بعد ذلك اختفى "فياض" نهائيا عن الأنظار ولم تستطع "أم بشير" الوصول إليه بعد محاولات جادة لإيجاده سواء عند "أبو روكز أو في مكان آخر، ، غير أن محاولاتها باءت بالفشل؛ إلى أن ظهرت صورته بعد مدة طويل على جريدة وهو مقيد بسلاسل وبشعر طويل وبلحية سوداء كثة ومعه منشورات ثورية، تخبر الصحيفة بأن  رجال الجمارك داهموا القبو للمعني بالأمر(وهو فياض) الذي كان يملك مطبعة سرية تحت الأرض قرب مقبرة يقال أنه كان يتجول فيها ليلا وأن هناك من رآه هناك، إلا أن كل من يراه يتصوره شبحا، بالرغم من أن حارس المقبرة تبعه يوما إلى أن اختفى تحت الأرض، فاستنتج هو الآخر أن ما رآه لا يعدو أن يكون إلا شبحا من الأشباح.

      هكذا تحول المناضل  إلى شبح يعيش بين الأموات بعدما رفضه الأحياء من وطنه الأم، نعم هذا هو المسار الذي ينتظر المناضل الحقيقي في زمن القمع والتضييق على الحريات، وهذا ما تصوره رواية "حنا مينة" "الثلج يأتي من النافذة"، الثلج الذي زامل "فياض" في الأخير في غابة عزلته وغربته، ربما كان عليه أن يختار النضال بعذاب داخل وطنه عوض هذا العذاب الداخلي الذي رافقه في بلاد غيره وأينما حل وارتحل. وإلى كل من لم يصله الثلج مثلما شهده "فياض"، أقول: إن "القمع يأتي من النافذة"، بل إن القمع يصل الجميع من كل جهة، ولنا مثال، في زمن جائحة كورونا والحجر الصحي، حيث ظهر التعنيف على المباشر، ويتم تبريره بأن المُعَنَّف لم يلتزم ببعض القواعد الجديدة، غير أن العنف لا يمكن أن نبرره، وليس للتعذيب تبرير.
                                                                         سعيد بدلاوي إدريسي.

إرسال تعليق

0 تعليقات