من طفل يستمتع بلا حدود -- إلى عامل معاناته بلا حدود

من طفل يستمتع بلا حدود

إلى عامل  معاناته بلا حدود.


      كل واحد منا يتذكر الطفل الذي كَانَه، وعلى الأقل يحاول التذكر واسترجاع زمن طفولته، ربما فقط من أجل المقارنة والوقوف  عند أوجه التشابه والإختلاف بين ذاته الحالية وبينه وهو طفل، وغالبا ما تنتهي المقارنة بنتيجة واحدة وهي سب الزمن الذي كان وراء التغيرات التي لحقت شخصه، تغيرات داخلية وخارجية، تحولات في الحياة النفسية العاطفية والعقلية أو تحولات جسدية فيزيولوجية. سيلعن هذا الزمن الذي جعله ينتقل إلى مستقبله دون تحقيق ما رغب فيه لما كان طفلا طموحا حالما بمستقبل أفضل، فيعبرعن سخطه عن هذا الزمن الذي جعل منه إنسانا شقيا تعيسا بشكل دائم، حيث يعمل ليل نهار دون جدوى. وقد يلعن هذا الزمن لأنه لم ينصفه وهو طفل.                       
    هاهو يعيد الكَرَّة مرات ومرات يتذكر ماضيه ويسترجع لحظاته     فينذب حظه ويلعنه، ثم يبدأ بالتأسف والتأفف إما عن طفولة أضاعها ولم يحسن استغلالها على نحو جيد، وإما تأسفه عن معاناة حقيقية حرمته من متعة تلك الطفولة، متعة حقيقية وليست مفتعلة كما يفعل الراشد المثقل بالهموم والمشاكل. فاستمتاع الأطفال، بشيء ما أو بلعبة ما، يتم بحب نابع من دواخلهم، فحب اللعب واللهو هو ما يشترك فيه الأطفال بل إن طبيعتهم تتحدد باللعب المتحرر من القواعد، فكلما حاولنا نحن الكبار تقنين لَعبهم إلا ورفضونا مهرولين نحو أقرانهم الذين يفهمون في اللعب غير المنظم. نعم لعب بدون الانضباط  لأية قوانين بالرغم من كثرتها وتنوعها، سواء كانت قوانين إلاهية أو بشرية أو طبيعية، على العكس من ذلك كثرث مُنَظَّمات -دولية ومحلية- تدعو إلى حماية الطفولة وسن قوانين  تبيح لهم  كل شيء وعدم استغلالهم. 
هذه القوانين التي تحمينا في الصغروتبيح لنا كل شيء، هي نفسها ستمنع علينا كل شيء ممتع في مستقبلنا ونحن كبار. نعم ستفسد علينا متعة الحياة، ستطبق علينا بنودا بشكل مبالغ فيه، ستخرجنا من الحياة وستقهرنا قهرا وتسلمنا إلى الموت ونحن أحياء. سيكون استغلالنا مقبولا من كل جهة كنا نعتقد في صغرنا أنها ستكون مصدر رزقنا وبالتالي سعادتنا. 
   ويا لبراءتنا أو بشكل أصح يا لغبائنا، كنا نأمل في الحصول على عمل في شركات ومعامل نجهل جشع"باطروناتها" وأنانيتهم والذين كنا نتخذ منهم قدوتنا وكنا نطمح في امتلاك ما يمتلكون ،وتحقيق ما حققوه من مال وفير لاحظنا أثره على أبنائهم وعائلاتهم، ولم نكن ندرك أن هؤلاء كانوا يكسبون ما يكسبونه من عرق جبين عُمَّالهم. عمال يعانون في صمت من بطش مستخدميهم، وأصروا ألا يخبرونا بمعاناتهم لكي لا يفسدوا علينا متعة طفولتنا، فكيف للأب أن يخبر أبنائه بعذابه اليومي في ورشة عمله؟ وهل يعقل أن يخبر عامل بناء ابنه الصغير بتفاصيل عمله المهلكة؟ كيف يستطيع أن يفعل ذلك والأب حريص على إسعاد ابنه ولو على حساب تعاسته(الأب)؟  

    معاناة العمال مستمرة بشكل يومي ودائم، فهذا عامل بناء يفتتح عمله بحمل الآجور على كتفه متنقلا بين طوابق العمارات ويستمر في ذلك طيلة اليوم، فيعود إلى منزله وقد وقعت عليه تغيرات فيزيولوجية، من انتفاخ في اليدين وتقيحها أحيانا وخاصة إذا كان مبتدئا في الحرفة، زد على ذلك حفر عدة على كتفيه من آثار نغزات الآجور محدثة نغزات في قلبه، وهذه معاناة يوم وقس على ذلك أيام وشهور وسنوات. وهذا عامل مقاولات مختصة في تهيئة الطرق، يقضي يومه -من أوله إلى آخره- يتنفس غبار الأتربة المتناثرة والتي ستصيبه لا محالة بحساسية توقف حياته قبل وصوله موعد التقاعد والذي تحدد في 62سنة، وبعض العمال غالبا ما تنتهي حايتهم قبل أن يدركوا سن التقاعد(أطال الله عمر عمالنا)، أما التقاعد سيبلغه فقط رؤساء النقابات وسينعم بمقابله الأحزاب والحكومات .
  
     وتستمر معاناة العمال والموظفين، والتي لا يفهمها إلا من مر بتجارب مماثلة، ونقابيونا لن يفهموا ذلك. نعم لن يفهم رؤساء النقابات شعور العامل وهو يحمل الأثقال وعقارب الساعة متباطئة بل ومتوقفة لا تتحرك بسرعة نحو منتصف النهار ليرتاح عاملنا ساعة واحدة فقط والتي تسرع أكثر من مثيلاتها قبل وبعد فترة الراحة للغذاء، حيوات ومشاعر وأحاسيس مختلفة في يوم واحد ومقابل أجر زهيييييد وضئيل. كل هذه الأحاسيس والمشاعر الحزينة لا يعلم عنها النقابي شيئا، لذلك نجده يساوم على مطالب عمالية مهمة ويعجل بتسوية ملفات سيربح من ورائها دُرَيْهمات تنزله ألى مرتبة الكائنات غير المفكرة والمفترسة لبعضها البعض والآكلة من لحم شبيهاتها. فالنقابي لم يعد يهتم بويلات العمال، تحالف مع "رب العمل" فقَنَّنَا العمل بقوانين وقواعد تحد الشغل على مقاسهم، وتُخْضع العامل لسيده مدى الحياة مُسْتَغَلاًّ مذلولا.

    كل ذلك يحدث أمام أعين جميع من يفقهون في حقوق الإنسان والإنسانية، وكل من يفهم في النضال الحقيقي وأبجدياته يعرف حياة العمال ويعلم طرق استغلالهم. فالعامل يعاني سواء أظهر معاناته أو كانت مخفية، يعيش طول عمره مستَغَلا وقد يفهم استغلاله وقد لا يدريه، لأن الوعي بوضعه لن ترافقه مطالب واحتجاجات لتغييره، ولو فعل فبكل تأكيد يعلم ما ينتظره من عقوبات  مختلفة ومتنوعة. سيتفننون في تعذيبه ليكون عبرة لمن فكر في مثل هكذا مطالب. وأول ما ينتظره توقيف أجرته فطرد وإقصاء، وهذا ما يخشاه وكلنا نعلم تبعات ذلك، خاصة وأنه مكَبَّل(شأنه شأن كل موظف) بمصاريف العائلة وبسلف وقروض لا تنتهي، وهي قيود كافية لتمنع كل من سولت له نفسه التفكير في النضال من أجل تحسين ظروف وشروط عمله. فلم يعد للنضال معنى بعدما أحكم المستغلون قبضتهم على عمالهم،ولكن إلى متى سيستمر الظلم والإستغلال؟ إلى متى؟ يا "كارل ماركس" أجب العمال الذين لم يتحدوا بل تشتتوا''''''.
    هكذا إذن، لم يتبق للعامل سوى الإنتحار، لكن أيها العامل أرجوك لا تنتحر مرة ثالثة فقد انتحرتَ مرتين عندما رضيتَ باستغلال أول من الجهة التي تُشَغّلك، والإستغلال الثاني من الجهة التي قرضتك قروضا لن تخرج منها مدى الحياة، عفوا طيلة موتك، فحياتك جحيم بهذا الشكل، ولا تستحق أن تعاش. 
                                                .........من س.إ.



إرسال تعليق

0 تعليقات