دروس كورونا:
من ثقافة الإهتمام بالتفاهة
إلى ثقافة أساسها العلم والمعرفة.
لم نكن نعتقد بأن هذا الوباء سيوصلنا إلى هذا الحد من القلق والملل والاكتئاب عند البعض، لقد قَهَرنا بالفعل وأصبحنا نعاني من الداخل معاناة تنخر كل شيء شُكّل فينا من زمان، لأننا لم نعش على هكذا معاناة من قبل ولم نحس بها كما لو أننا لم نكن نعاني أو نحس. أقول لم نعش على هذه الأحاسيس بشكل جماعي وكوني، لأن هناك من تذوق معاناة أكثر وأشد من معاناتنا.
مثال ذلك الفلسطينيون وبعض الشعوب التي تعرف الحروب. نعم الفلسطينيون تذوقوا مرارة الحياة في بيوتهم وعلى أراضيهم وبشكل مستمر ومدة طويلة ، جعلت البعض يتناسى معاناتهم وكأن الأمر عادي جدا. وباء كرونا ذكر الجميع بما يعانيه الفلسطيني من قهر لا يطاق ولا يقهر بمساعدات من هذا البلد أو ذاك، فالقضية الفلسطينية بالفعل ينبغي أن تكون أول ما ينبغي معالجته ما بعد كرونا-إن كان لها بَعْدَ، إن لم نعش زمنها بشكل دائم، فعلينا الإهتمام بأمرهم إن كنا بالفعل أعدنا النظر في طبيعة الإنسانية اللاإنسانية التي كناها قبل هذا الوباء.
ذَكّرَتنا كورونا بأن العظمة التي كان الإنسان يتمتع بها، أضحت في خبر كان؛ لأن طبيعة هذا الوباء ووقعه كان سبيلا وممرا نحو الوعي بمخاطر جديدة وقوية تهدد كل من كان يعتقد بامتلاكه القدرات الكافية للوصول إلى هذه العظمة؛ فلا المال ينفع، ولا امتلاك الشركات ينفع، ولن ينفع النسب والحسب، ولن يكفي الإنتساب إلى بلد بعينه؛ لأن عظمة الدول هي أيضا في الميزان،حيث فَعَل الوباء فعلته في كبرى الدول:USA،إيطاليا،إسبانيا،،فرنسا،الصين...واللائحة طويلة. توفي الآلاف في أمريكا حاكمة دول العالم وحكوماته، فهاهي الأمريكان تعاني الأمرين مع كورونا، ولم تنفعها خيرات العراق التي نهبتها بطرق غير مشروعة وبحروب مفتعلة، ولا ملايير السعودية تنفع بلاد العم سام (وبلاد ترامب المجنون)؛ وبالنسبة للدول التي تستعمر بالماشر أو بغير المباشر لم تنفعها الاستفادة المستمرة من خيرات البلدان التي تعاني بدون كورونا، أما بكرونا ستعاني هذه الدول المتخلفة والمتأخرة وستنضاف معاناة كوفيد-19 إلى المعاناة الدائمة مع إمبيريالية وهيمنة دول أخرى.
عظمة الإنسان إذن تتهاوى، والدول العظمى تتهاوى، والشركات الكبرى تعاني بل أصاب بعضها الإفلاس. ونتمنى أن يكون التفكير في النهوض بإقتصادات الدول في صالح الجميع عوض استفادة الأقوى فقط، ينبغي أن نهتم ببعضنا البعض، وثانيا وأولا وأخيرا على دول العالم وشعوبها تقدير العلم والعلماء ورعاية مدرسيهم وتشييد المستشفيات وبناء المدارس بدل الاستثمار في التفاهات، فبدل تحفيز وتشجيع التافهين، يجب على المجتمع أن يحث أفراده على الإهتمام بالعلم والمعرفة والإهتمام بالثقافة بكل مكوناتتها.
ها أنتم تستمعون -عن بُعْد- إلى بعض التصريحات التي تدعو إلى نوع جديد من العلاقات البشرية يسودها التضامن والتآزر والمساعدات، وهو الدرس الذي ذكرتنا به كورونا أيضا، فظهر أن التضامن مع الآخرين فضيلة، لذلك من خلال التذكر يمكن أن نعيد الأهمية و القيمة لقيم نبيلة نسيناها ، فقط النسيان جعلنا نتخلى عن بعض الفضائل التي كان ينبغي علينا ألا ننساها لتستمر الإنسانية الحقة في البروز بدل التطبيع مع هذه الخصال التي لم تكن إلا رذائل ومنافع عند بعض المحتسبين على الإنسانية، ويعود سبب نسيان القيم الجميلة إلى الجهل بانعكاسات الرذائل على مصير الإنسان، فأصبحنا نولي أهمية كبيرة للمال والربح والنجاح في الفعل حتى وإن كان سلوكا يمس بكرامة الآخرين وبإنسانيتهم.
لا نحتاج لمصيبة أخرى مثل كورونا لتذكرنا بأهمية التضامن لأنه كان ولا يزال فضيلة وله قيمة اجتماعية لا ينكرها إلا نرجسي مفرط في نرجسيته، فالحياة الحقيقية (دونٍ معاناة بشرية) التي تليق بالإنسان-العاقل، العارف، الرامز،المثقف، العالم-هي الحياة القائمة على تعايش مبني على التعاون المشترك، مجتمع بشري أساسه الأخذ والعطاء، وليس فقط تجمعا مبنيا على الأنانية ورغبة مستمرة في التملك، تَمَلُّك وتَمَلُّك وتَمَلُّك المزيد من الأشياء دون التفكير في معاناة اللآخر المحتاج القريب منه والذي يرغب فقط في تحصيل ما يسد به رمق الحياة.
بناء المجتمع الإنساني إذن، لن يكون إلا بالإهتمام ببناء أفراده والرقي بمستواهم وسلوكاتهم: أخلاقيا وثقافيا وعلميا واقتصاديا، لأن توجيه الجهود إلى الإقتصاد وحده دون تثقيف الإنسان قد يؤدي إلى تشييد مجتمع الفساد عوض مجتمع المعرفة. وعليه فالمجتمع الفاضل يُنْتج سياسيين فضلاء وأخيار يهتمون بشؤون الفقراء، ومن ثمة القضاء على مختلف أشكال العنف الذي قد يولد من رحم المعاناة والجهل، ولنا في الgريساج خير مثال،فهذا النوع من السرقة والعنف أصبح شر تعاني منه كل فئات المجتمع، وللقضاء على الكريساج يتطلب الأمر التدخل الإقتصادي والاهتمام بالثقافة وتجديدها وترميم قنوات نقلها. "إوا تْرجل معانا أسي الإعلامي وصافي علينا من التفاهة"" التي تنقلها لأفراد المجتمع، وحاول أن تنشر الأفكار التي تحمل علما وأخلاقا من أجل تشكيل وعي قادر على الفهم والتحليل والنقاش البناء ، ألم تستفد من كورونا التي واجهها الرجال فقط واختفى كل من كنت تستضيفه في برامجك من التافهين، لكن لم يختفي الذين لم تستضفهم ولم يهتم بهم إعلامك من علماء وأطباء ومفكرون ومعلمون.
هكذا إذن أصبح تجديد الثقافة البالية وتغييرها ضرورة لمواجهة آفات العصر والتغلب على الفساد الذي تعاني منه المجتمعات الفقيرة اقتصاديا، فالنجاح الإقتصادي ينبغي أن يوازيه تقدم أخلاقي لأنسنة الفضاء العام، وبناء مجتمع بثقافة جديدة وبأفراد متعاونين ومتضامنين وأحرار ويؤمنون بالإختلاف.
......من س.إ.
......من س.إ.
1 تعليقات
مقال جيد. نحتاج لاعادة بناء تصور جديد للعالم.
ردحذف